مسافرون ..علي رصيف محطة القطار
كان معاوية رضي الله عنه يقول: "إنا والله من زرع قد استحصد" أي حان حصاده؛ ولما نُعِي له صاحباه عبد الله بن عامر والوليد بن عقبة، وكان أحدهما أكبر منه والآخر دونه في العمر، أنشد قائلاً:
إذا سار مَنْ خلْفَ امرئٍ وأمامَه وأُفرِدَ من أصحابه فهو سائر
ثم مات معاوية عام 60 من الهجرة، وورث هذا المعنى الأعمش؛ فلما قيل له: مات مسلم النحات، فقال: إذا مات أقران الرجل فقد مات، ثم مضى الأعمش وغادر الحياة عام 148 من الهجرة، فالتقط خيط الضوء منهما قبل أن يتبدَّد إبراهيم بن أدهم المُتوفَى عام 162هـ؛ فقال محفِّزًا على العمل قاتلاً روح الكسل: "سارعوا وسابقو فإن نعلاً فقدت أختها سريعة اللحاق بها".
وصدق ثلاثتهم، وأخلصوا لنا الموعظة، وبقي أن نرى أثر كلامهم على أعمالنا، ودلائل قصر الأمل في حياتنا.
مسافرون نحن.. منتظرون على رصيف في محطة قطار.. وفي القطار عربات متقدمة وأخرى متأخرة.. ولا ندري في أي العربات نزلنا؟! ولا متى نغادر قطار الحياة إلى محطة الوصول.. والله.. يوشك الدور أن يصيبنا، وملك الموت أن يزورنا، وظلمة القبر أن تحتوينا!!. لا تنتظر لإصلاح نفسك شيبًا يغزو شعرك أو مرضًا يبطش بصحتك، فرُبَّ ضاحكٍ ملء فيه في ليلةٍ قامت بواكيه آخرها.
مات أبي وهو صائم، وقد زفَّ لنا البشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "من خُتِم له بصيام يوم دخل الجنة
ما السر في حسن الخاتم وروعة المغادرة؟!
والله ليس إلا في سرِّ، وما هو غير أحد أمرين:
1- السرائر: مَن أصلحَها.. ضمن حسن الخاتمة وروعة الرحيل.. ومن فرَّط فيها فقد جني على نفسه ولفَّ حبل سوء الخاتمة حول عنقه.
فالله الله في السرائر.. اتقِ الله أخي في مفتاح الخواتيم وسرِّ علو السادة المقرَّبين، فلتحفظ سرَّك بينك وبين حبيبك، ولا تُفشِه ولو لأقرب الناس منك، وذلك بأن يكون لك خبيئة من عمل صالح لا يطّلع عليه أحد غير ربك، لتنقش كلمة الإخلاص في ديوانك، وتنحت صخرة الرياء بل تنسفها من سجلاتك، وتمحو بذلك ما سوى الله من قلبك، والمكافأة غدًا: كنزٌ ثمين مخبوء: ?فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)? (السجدة).
2- المداومة على العمل الصالح:
أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ، وأحب العباد إلى الله من داوم على عمله الصالح، فهي علامة محبَّة العبد لله وعلامة محبَّة الله للعبد، وقليل مَن يفعله، وأنفاس الأكثرين قصيرة، يتأرجحون بين الطاعة والمعصية كبندول الساعة، ويعيشون في أجواء الطاعات تارةً وأجواء الغفلات تارةً أخرى، أمَّا من ثبت واستمر، فهو مَن حاز وِسام البطولة واستحق رحيلاً رائعًا كهذا.
الصالح لا يوقفه عن عمله زخرف دنيا، كيف لا وقد انتمى لحزب قال الله تعالى فيه: ?رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ? (النور: من الآية 37).
الصالح لا يوقفه عن عمله عجزٌ ولا انعدام قدرة، كيف لا وقد بهرته المساواة التي أعلن عنها نبيه صلى الله عليه وسلم: "رجل آتاه الله مالاً وعلمًا فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالاً، وهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملتُ فيه بمثل الذي يعمل، فهما في الأجر سواء". (صحيح).
الصالح لا يوقفه عن عمله مرضٌ ولا ضعف: كيف وقد كان تعلَّم من نبيه أنه لم يكن يدع قيام الليل، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعدا؟!.
الصالح لا يوقفه عن عمله تفرُّد ولا وحشة طريق أو قلة رفيق، وكيف وربه يبشِّره: "أنا جليس مَن ذكرني"؟!. (صحيح).
وتبقى خمس وصايا خطرت ببالي بعد دفن أخي الحبيب، أحتسب مثل ثواب الدعوة إليها والعمل بها في ميزان حسناته وقد مات، وأرسل بها إلى صحيفة حسناته وهو في قبره، ألا وهي:
1- وصية مكتوبة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حقُّ امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصية مكتوبة عند رأسه". (متفق عليه).
فقم من التَّو واللحظة، واكتب وصيتك إن لم تكن فعلت، واستحضِر النية عند كتابة الوصية بأن تفعل ذلك اتِّباعًا للسنة، واستعدادًا للموت، وأداءً للحقوق، وتذكرةً لمن حولك بالآخرة، وإبراءً لذمتك إن عُصِي الله ورسوله بِنواحٍ أو مخالفة سنة.
2- ثورة محمودة:
فلتشعل نار الثورة في عباداتك وعاداتك.. في أخلاقك وأهدافك.. في علاقاتك، فتغتنم هبوب ريح الموت على قلبك، وتستنشق من العزائم ما تهدم به كسلك، وتجدِّد رتابتك، وتنفح الروح في صور عبادات ميتة؛ فتبعث فيها الحياة بعد أن طغت عليها المادة فأهلكتها؛ ولذا كانت وصية النبي- صلى الله عليه وسلم- بزيارة القبور ومعالجة الموتى أفضل الوصايا.
3- هجرة مفروضة:
أن تهجر كلَّ ما لا تريد أن يصحبك إلى قبرك، وتفارق أي عمل سوء رافقك في حياتك؛ خوفًا مِن أن يُدفن معك، فتطرده اليوم من حياتك الأولى، قبل أن يرافقك أثناء حياتك الثانية!! ثم سَائِل نفسَك: ما أكثر ما يهلكك؟ ما أشد ما يجعل الشيطان يهزمك؟! ما المفتاح الذي غزا به قلبك وسعى به في هدم إيمانك؟ ثم تعزم العزمة المباركة على الهجرة المباركة.
4- غفلة مدحورة:
نعم سينزل بنا الموت، ولن يدع لأحد منا فِضة إلا فضَّها، ولا ذهبًا إلا ذهب به، ولا عقارًا إلا عقره، ولا مالاً إلا مال عليه، فكيف نغفل عمَّن يزورنا صباح مساء، يخطف الناس من حولنا، لينزع داء العصر من أفئدتنا، وهي الغفلة بكل أنواعها: الغفلة عن الحساب.. الغفلة عن الثواب.. الغفلة عن العقاب.. والغفلة الكبرى عن حق الله رب العالمين.
5- زهادة نادرة:
أن تملأ الآخرة قلبك وإن أحاطت بك الدنيا، وأن تغرق في المال ولا تميل معه، وتتاجر في الذهب ولا تذهب معه، وأن تحتسب لكل خطوة دنيوية نية أخروية، وأن تذكر الموت إذا فُتِحتْ عليك الدنيا فلا تطغى، وحين تُدبِر فترضى، وكيف لا وقد علَّم الموت كل من كان له عقل ذكي أو قلب تقي أن أغنى الأغنياء سيقف على خط واحد مع أفقر الفقراء في البيت الموحش المُسمَّى في هذه الدنيا قبرًا.
وربِّك لو كشفتَ التُّرب عنهم لما عُرِف الغني من الفقير
ولا من كان يلبس ثوب صوف ولا البَدَن المنعَّم بالحرير
لذا كان حضورك الجنائز واستنشاق تراب دفن الأموات أفضل جرعة تشفي القلب من غفلته وترده إلى سليم فطرته، وقد استفادها الحسن بن علي حين قعد عند رأس ميت فقال: "إن أمرًا هذا آخره لأهلٌ أن يُزهَد في ما قبله، وإن أمرًا هذا أوله لأهل أن يُحذَر ما بعده.وآخر دعوانا اللهم احسن خواتمنا جميعا واحشرنا مع الشهداء والصديقيين
كان معاوية رضي الله عنه يقول: "إنا والله من زرع قد استحصد" أي حان حصاده؛ ولما نُعِي له صاحباه عبد الله بن عامر والوليد بن عقبة، وكان أحدهما أكبر منه والآخر دونه في العمر، أنشد قائلاً:
إذا سار مَنْ خلْفَ امرئٍ وأمامَه وأُفرِدَ من أصحابه فهو سائر
ثم مات معاوية عام 60 من الهجرة، وورث هذا المعنى الأعمش؛ فلما قيل له: مات مسلم النحات، فقال: إذا مات أقران الرجل فقد مات، ثم مضى الأعمش وغادر الحياة عام 148 من الهجرة، فالتقط خيط الضوء منهما قبل أن يتبدَّد إبراهيم بن أدهم المُتوفَى عام 162هـ؛ فقال محفِّزًا على العمل قاتلاً روح الكسل: "سارعوا وسابقو فإن نعلاً فقدت أختها سريعة اللحاق بها".
وصدق ثلاثتهم، وأخلصوا لنا الموعظة، وبقي أن نرى أثر كلامهم على أعمالنا، ودلائل قصر الأمل في حياتنا.
مسافرون نحن.. منتظرون على رصيف في محطة قطار.. وفي القطار عربات متقدمة وأخرى متأخرة.. ولا ندري في أي العربات نزلنا؟! ولا متى نغادر قطار الحياة إلى محطة الوصول.. والله.. يوشك الدور أن يصيبنا، وملك الموت أن يزورنا، وظلمة القبر أن تحتوينا!!. لا تنتظر لإصلاح نفسك شيبًا يغزو شعرك أو مرضًا يبطش بصحتك، فرُبَّ ضاحكٍ ملء فيه في ليلةٍ قامت بواكيه آخرها.
مات أبي وهو صائم، وقد زفَّ لنا البشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "من خُتِم له بصيام يوم دخل الجنة
ما السر في حسن الخاتم وروعة المغادرة؟!
والله ليس إلا في سرِّ، وما هو غير أحد أمرين:
1- السرائر: مَن أصلحَها.. ضمن حسن الخاتمة وروعة الرحيل.. ومن فرَّط فيها فقد جني على نفسه ولفَّ حبل سوء الخاتمة حول عنقه.
فالله الله في السرائر.. اتقِ الله أخي في مفتاح الخواتيم وسرِّ علو السادة المقرَّبين، فلتحفظ سرَّك بينك وبين حبيبك، ولا تُفشِه ولو لأقرب الناس منك، وذلك بأن يكون لك خبيئة من عمل صالح لا يطّلع عليه أحد غير ربك، لتنقش كلمة الإخلاص في ديوانك، وتنحت صخرة الرياء بل تنسفها من سجلاتك، وتمحو بذلك ما سوى الله من قلبك، والمكافأة غدًا: كنزٌ ثمين مخبوء: ?فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)? (السجدة).
2- المداومة على العمل الصالح:
أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ، وأحب العباد إلى الله من داوم على عمله الصالح، فهي علامة محبَّة العبد لله وعلامة محبَّة الله للعبد، وقليل مَن يفعله، وأنفاس الأكثرين قصيرة، يتأرجحون بين الطاعة والمعصية كبندول الساعة، ويعيشون في أجواء الطاعات تارةً وأجواء الغفلات تارةً أخرى، أمَّا من ثبت واستمر، فهو مَن حاز وِسام البطولة واستحق رحيلاً رائعًا كهذا.
الصالح لا يوقفه عن عمله زخرف دنيا، كيف لا وقد انتمى لحزب قال الله تعالى فيه: ?رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ? (النور: من الآية 37).
الصالح لا يوقفه عن عمله عجزٌ ولا انعدام قدرة، كيف لا وقد بهرته المساواة التي أعلن عنها نبيه صلى الله عليه وسلم: "رجل آتاه الله مالاً وعلمًا فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالاً، وهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملتُ فيه بمثل الذي يعمل، فهما في الأجر سواء". (صحيح).
الصالح لا يوقفه عن عمله مرضٌ ولا ضعف: كيف وقد كان تعلَّم من نبيه أنه لم يكن يدع قيام الليل، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعدا؟!.
الصالح لا يوقفه عن عمله تفرُّد ولا وحشة طريق أو قلة رفيق، وكيف وربه يبشِّره: "أنا جليس مَن ذكرني"؟!. (صحيح).
وتبقى خمس وصايا خطرت ببالي بعد دفن أخي الحبيب، أحتسب مثل ثواب الدعوة إليها والعمل بها في ميزان حسناته وقد مات، وأرسل بها إلى صحيفة حسناته وهو في قبره، ألا وهي:
1- وصية مكتوبة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حقُّ امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصية مكتوبة عند رأسه". (متفق عليه).
فقم من التَّو واللحظة، واكتب وصيتك إن لم تكن فعلت، واستحضِر النية عند كتابة الوصية بأن تفعل ذلك اتِّباعًا للسنة، واستعدادًا للموت، وأداءً للحقوق، وتذكرةً لمن حولك بالآخرة، وإبراءً لذمتك إن عُصِي الله ورسوله بِنواحٍ أو مخالفة سنة.
2- ثورة محمودة:
فلتشعل نار الثورة في عباداتك وعاداتك.. في أخلاقك وأهدافك.. في علاقاتك، فتغتنم هبوب ريح الموت على قلبك، وتستنشق من العزائم ما تهدم به كسلك، وتجدِّد رتابتك، وتنفح الروح في صور عبادات ميتة؛ فتبعث فيها الحياة بعد أن طغت عليها المادة فأهلكتها؛ ولذا كانت وصية النبي- صلى الله عليه وسلم- بزيارة القبور ومعالجة الموتى أفضل الوصايا.
3- هجرة مفروضة:
أن تهجر كلَّ ما لا تريد أن يصحبك إلى قبرك، وتفارق أي عمل سوء رافقك في حياتك؛ خوفًا مِن أن يُدفن معك، فتطرده اليوم من حياتك الأولى، قبل أن يرافقك أثناء حياتك الثانية!! ثم سَائِل نفسَك: ما أكثر ما يهلكك؟ ما أشد ما يجعل الشيطان يهزمك؟! ما المفتاح الذي غزا به قلبك وسعى به في هدم إيمانك؟ ثم تعزم العزمة المباركة على الهجرة المباركة.
4- غفلة مدحورة:
نعم سينزل بنا الموت، ولن يدع لأحد منا فِضة إلا فضَّها، ولا ذهبًا إلا ذهب به، ولا عقارًا إلا عقره، ولا مالاً إلا مال عليه، فكيف نغفل عمَّن يزورنا صباح مساء، يخطف الناس من حولنا، لينزع داء العصر من أفئدتنا، وهي الغفلة بكل أنواعها: الغفلة عن الحساب.. الغفلة عن الثواب.. الغفلة عن العقاب.. والغفلة الكبرى عن حق الله رب العالمين.
5- زهادة نادرة:
أن تملأ الآخرة قلبك وإن أحاطت بك الدنيا، وأن تغرق في المال ولا تميل معه، وتتاجر في الذهب ولا تذهب معه، وأن تحتسب لكل خطوة دنيوية نية أخروية، وأن تذكر الموت إذا فُتِحتْ عليك الدنيا فلا تطغى، وحين تُدبِر فترضى، وكيف لا وقد علَّم الموت كل من كان له عقل ذكي أو قلب تقي أن أغنى الأغنياء سيقف على خط واحد مع أفقر الفقراء في البيت الموحش المُسمَّى في هذه الدنيا قبرًا.
وربِّك لو كشفتَ التُّرب عنهم لما عُرِف الغني من الفقير
ولا من كان يلبس ثوب صوف ولا البَدَن المنعَّم بالحرير
لذا كان حضورك الجنائز واستنشاق تراب دفن الأموات أفضل جرعة تشفي القلب من غفلته وترده إلى سليم فطرته، وقد استفادها الحسن بن علي حين قعد عند رأس ميت فقال: "إن أمرًا هذا آخره لأهلٌ أن يُزهَد في ما قبله، وإن أمرًا هذا أوله لأهل أن يُحذَر ما بعده.وآخر دعوانا اللهم احسن خواتمنا جميعا واحشرنا مع الشهداء والصديقيين